الوضع المظلم
الجمعة ٠٨ / نوفمبر / ٢٠٢٤
Logo
حتى لا يكون اللاجئ السوري في أوروبا
زارا سيدا 

متابعة لبعض التفاصيل حول حادثة "انتحار" شاب سوري لم يتمم العقد الثالث من العمر في مدينة ميتز/ ميس الفرنسية كان لافتاً الحديث عن صدمة قاسية رافقته في مرحلة ما بعد وفاة والده خارج فرنسا  – قبل أشهر قليلة- التي لا أسمع بها وغالباً كثيرون مثلي من السوريين قاطني المدينة رغم حداثة الوفاة كوننا لم نكن ضمن دائرة علاقات الابن أو أنه لم يعلن عن مجلس عزاء، لكن ذلك يكشف فقراً اجتماعياً في  وسطنا السوري في هذه المدينة، رغم إنها ليست بالمدينة المترامية ولا تضم "جالية" سورية ضخمة مقارنة بجيرانها من نانسي وستراسبورغ.

رغم بعض العلاقات الودية بين مجموعات متآلفة ومنفتحة على بعضها كلً على حدة (كل واحدة لها طبيعتها الخاصة والغامضة التشكيل غالباً إن لم تكن مناطقية)، إلا إننا لا نزال نفتقد لقواسم مشتركة حقيقة، ولا يمكننا  توسيع دوائرنا هذه بحجج الانشغال والمسؤوليات اليومية تارة وبحجج أخرى -من قبيل عدم التجانس والتآلف- ربما لا تكون منطقية دائما، وبعيدون عن بعضنا لمسافات ولنا أحكام مسبقة حول بعضنا في الغالب تحبط أي فكرة للتقارب، ما يخلق فجوات واسعة وجفاء عاماً و "جهلاً" بالأحوال والحاجات (غير المادية) لبعضنا، كما يكشف ضعف أو عدمية دور أشباه الأطر المدنية السورية أو التي تعمل إلى جانبهم في بناء جسور أو خلق روابط فعالة بين أبناء "الجالية" بل  إنها أطر مناسباتية في أفضل الأحوال.

يحتفظ كل منا بموقعه غير المبادر ويعتقد دائماً أن الآخر منشغل بشيء ما أو أن لا مزاج له أن تدعوه إلى كاس شاي أو فنجان قهوة، فيبقى سلبياً في قوقعته مكتفياً بدائرته إن وجدت أو أسرته الضيقة، في حين أن الحقيقة باعتقادي غير ذلك ولو بادر أحدنا غالباً ما سيجد القبول وقد يكتشف مع الوقت أنه اكتسب صديقاً أو رفيق شاي على الأقل.

هذا الجفاء والبعد – حسب ما أعرف- ليس مكرراً في الأوساط السورية في المدن الأخرى التي تتشابه مع ميتز حجماً وكتلة بشرية، لكنه ملحوظ، بل طاغي هنا، حتى أنه من خلال ملاحظتي وجدت أن الجيرة أيضاً لم تعد عاملاً جذاباً ودافعاً لاكتساب معارف جدد مع الاكتفاء برد السلام بينهم إذا ما تلاقيا صدفة.

يكاد يصح القول إننا نعيش هنا بماضينا وكينونتنا السابقة دون أن يطرأ عليها تغيير فعلي أو عميق، مع ما نبنيه من سدود في وجه ما قدمنا إليه وما حلم العديد منا بالوصول إليه، إلا اكتساب سريع لمهارة فتور العلاقات وبرود الأعصاب، وكأننا في حقل ألغام يوجب علينا الحذر الشديد أثناء السير في يومياتنا أو المتاريس التي نصد بها ما نعتقد أنه يخالف "قناعاتنا" التي هي ما وجدنا أنفسنا عليه وربما ليست مبنية بعناية فائقة أو جهد فائق.

اتفق مع ذهب إليه أحد أبناء الجالية في معرض تعليقه على أسباب الحادثة، حين نوه بأننا جميعاً نعاني بشكل أو بآخر من الاكتئاب، إلا أن هذا الانعزال والانكماش وضيق الصدر الذي نحن فيه غالباً ليس نتيجة للاكتئاب، بل مسببات لها، وما الحوادث المتكررة من هذا القبيل في أوساط اللاجئين إلا تعبيراً ونتيجة لهذه الانعزالية التي فرضناها طوقاً حول أنفسنا. يتألم ويعاني لسبب ما قد لا يكون عظيماً إلا إنه حين يكتم التعبير ولا يجد من يشكو إليه نجواه أو من يردد على مسمعيه بعض الكلمات تخفف عنه أو من يحمل مع بعض الهوان الذي طرأ عليه، لا بد له أن يصبح مكتئباً ومنغلقاً بل حتى مشروع مريض نفسي مزمن لن تحمد عقباه ما لم يلقى العلاج الصحيح والمتكامل والدعم النفسي الحقيقي.

إلى جانب ذلك يردد آخرون قناعاتهم بالحديث عن "عدم تجانس" في أوساط السوريين في المدينة، "فماذا يعني أن يكون المرء سورياً وهل هناك هوية سورية جامعة؟"، متسائلين عن "الإضافة" التي يمكن أن تضفيها سورية أحدهم عليهم، مستعرضين بعد عقد من ثورة فشلت في أن تبني وعياً جمعياً بالوطنية أو المواطنة وحولت ذواتنا إلى أرقام في تعداد اللاجئين دونما انجاز فردي أو جمعي  لا سيما حين تحول أصحاب الشهادات غير المعترف بها في فرنسا إلى أميين جدد عاطلين غير منتجين، يجهدون ليثبتوا عكس ذلك باحثين عن حقول عمل تلاءم ماضيهم أو لا تكسر صورتهم أمام ذواتهم .

يخوض الكثير من اللاجئين صراعاً مستمراً مع محاولات التأقلم وتعلم لغة جديدة والاندماج التي تستوجب روتيناً مملاً وبيروقراطية ليس من السهل أن تخترقها الطرق التقليدية في تسريع المعاملات كتلك المعهود بها في بلدان الشرق، عداك عن انتظار طويل قد يمتد لأشهر إذ لم يكن سنوات، غالباً ما تصل بهم الأمور لدرجة تفقدهم الرغبة بكل شيء من حولهم معززة حالات من الإحباط والاكتئاب التي أفرزتها الحرب التي شنت على الشعب السوري سواء من قبل النظام وأصدقائه ودولٍ من الجوار بمشاركة من فصائل ومجموعات ولائية أو عقائدية، مع ما رافق ذلك من صعوبات وويلات وانتهاكات مروا فيها أو فقدان لأقارب أو أعزاء، ناهيك عن دمار مواطن الصبا أو احتلالها وإحداث تغييرات ديمغرافية يقف اللاجئ أمامها عاجزاً فاقداً للحيلة مقهوراً.

سبق أن استنتجت دراسة دولية شملت 24051 لاجئاً من جنسيات مختلفة أن نسبة 44 في المائة منهم يعانون من الاكتئاب، في حين تتفق الدراسات عموماً على أن نسبة انتشار الاكتئاب عند اللاجئين السوريين في الدول المتقدمة أقل منها في الدول النامية بتأثير قدرة تلك المتقدمة على تلبية احتياجاتهم الأساسية بشكل أكبر، رغم أنهم يصطدمون غالبا بمجتمعات جديدة ويعيشون حياة مختلفة عن الحياة التي ألفوها في بلدانهم، وخصوصا فيما يتعلق بالتحديات والصعوبات التي يتوجب عليهم اجتيازها لتأمين حياة كريمة، مروراً بالحياة الاجتماعية التي تتضاءل في الغربة .

غياب المعرفة بأهمية الصحة النفسية وثقافة الخوف من الوصمة الاجتماعية التي ترافق المريض النفسي في مجتمعنا مع ما يرافق ذلك من تنمر مجتمعي يدفعان إلى الاستمرار في حالة الاكتئاب والانعزال وعدم الخوض في رحلة العلاج أو عدم إتمامها التي أثبتت الحوادث السابقة في المدينة أنها قد تتطور إلى ردود فعل عنيفة تؤذي المريض أو من حوله .

البحث عن حيل مبتكرة حتى نفوت الفرصة على الاكتئاب واليأس أن ينالا منّا، ليس بالأمر الصعب في هذه المدينة الهادئة والمفعمة بالحياة لا سيما في الصيف، خطوة واحدة إلى خارج الدائرة نحو كسر الصمت والميلودراما فيها متعة الانتصار ونشوة الانطلاق نحو فضاء أرحب، تبادل الأحاديث والأفكار في أي من المشتركات  الأدبية أو الفنية أو الرياضية وغير ذلك حتى البسيطة جداً، في الحين ذاته يفترض بالأطر المدنية التي وجدت لتنشيط وتفعيل وتقريب المجتمع أن لا تستسلم للمعوقات وتعيد توليف ذاتها بما يحقق الأهداف التي رسمتها لنفسها.

-------

ليفانت - زارا سيدا 

 

كاريكاتير

النشرة الإخبارية

اشترك في قائمتنا البريدية للحصول على التحديثات الجديدة!